حين نضجت تجربة النقل الحضاري ، وتمكن المبدعون العرب والمسلمون من علوم من سبقهم من اليونان والفرس والهنود وسواهم ، دخلوا مرحلة الإضافة العلمية والتصحيح والتنقيح كما فعل ابن النفيس ، وكانت التجربة قد أهلتهم إلى دخول عالم الاكتشاف فأسهموا في تأسيس العلوم الجديدة ، كما فعل الإمام الجعفر الصادق وابن حيان وخالد بن يزيد في تأسيس علم الكيمياء ، وكما فعل ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† في تأسيس علم العمران الذي يسمى اليوم علم الاجتماع الإنساني أو السوسيولوجيا ..
ولا ينكر أحد على ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† كونه المؤسس لهذا ط§ظ„ط¹ظ„ظ… الذي وصفه مبدعه بأنه ( مستحدث الصنعة ، غريب النزعة ، غزير الفائدة ، أكثر عليه البحث ، وأدى إليه الغوص ( والمفارقة أن ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† أوجد هذا ط§ظ„ط¹ظ„ظ… في مقدمة أنشاها لكتابه الشهير في التاريخ ، وهو
( كتاب العبر ، وديوان المبتدأ والخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) وهو كتاب يقع في سبعة مجلدات ، أراد أن يجعل لها مقدمة يبث فيها خلاصة رؤيته لأحوال المجتمعات الإنسانية ، فإذا هو يجد نفسه أمام رؤية لعلم جديد لم يسبقه إليه أحد ، فنسي الناس الكتاب ، وبقيت المقدمة الشهيرة التي تقع في أربعمائة صفحة .
وابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† هو عبد الرحمن أبو زيد وقد لقب بـ ( ولي الدين ) لأنه كان من قضاة المالكية ، ولابد أن اسم أبيه خالد ، ولكن أهل الأندلس كانوا يضيفون الواو والنون على أسماء من يعظمون تكريماً ، فابن زيدون هو ابن زيد ، وابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† هو ابن خالد بن عثمان وهو حضرمي يماني ، وكان ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† يحرص على أن يضيف لقب الحضرمي إلى اسمه اعتزازاً بأصل بنسبته إلى الصحابي الجليل وائل بن حجر . وقد ولد ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† في تونس سنة 732 هجرية (1332م) ولكنه نشأ في قرمونة ، بعد أن هاجر الكثيرون من تونس إلى الأندلس هرباً من الطاعون الذي انتشر منتصف القرن الثامن الهجري ، وكان قد حفظ القرآن الكريم طفلاً ، وتعلم على أبيه وأصحاب أبيه علوم المنطق والفلسفة ، ومن مطلع الصبا بدا حبه للسياسة ، واتضح استعداده ليكون رجل دولة حيث يحل ، ولكن الوظائف الكبرى التي شغلها على مدى ربع قرن لم تصرفه عن تحقيق رغبته في التفرغ للبحث والتأليف ، وقد تمكن من أن يسجل اسمه مع الخالدين عبر تأسيسه لعلم العمران ، وكانت الوظائف التي توّلاها قد عمّقت تجربته ووسعت رؤيته ، وقد بدأها بوظيفة ذات شأن هي ( كتابة العلامة ) للوزير ابن تافكين ، وبعد أن دالت دولته ، هاجر ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† إلى قسنطينة في الجزائر وتزوج هناك ، ثم انطلق إلى فاس في المغرب وصحب السلطان أبا عنان ، وتولى عنده وظيفة الكتابة والتوقيع ، وكان ما يزال دون الثانية والعشرين ، حين ذاع صيته واشتهرت مكانته ، وقد أتيح له في فاس أن يعمق ثقافته في مكتباتها ، وتميز أسلوبه الأدبي بالسهولة والوضوح ، وقوة الحجة والدليل على فكرته، ويذكر له مترجموه أنه نظم الشعر ولكنه لم يكن شاعراً. وقد عاد إلى الأندلس ليلتحق بثالث ملوك بني الأحمر وهو محمد بن يوسف ، وهناك نمت صداقته مع الشاعر الوزير الشهير لسان الدين بن الخطيب الذي تعرف إليه في فاس حين عملا معاً في بلاط السلطان أبي سالم .
وقد عينه السلطان الأحمر ( محمد بن يوسف ) سفيراً بينه وبين ملك قشتالة بطرس القاسي ، فساعد على إبرام صلح بين الملكين ، ولكن علاقته بالملك تعرضت لاضطراب ، فعاد إلى بجاية في الجزائر ، وعمل حاجباً للسلطان محمد الحفصي ( وهذا أعلى منصب سياسي في الدولة ) وفي هذه الآونة خطب الجمعة في جامع القصبة ، وقد تقلب ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† في مناصب الدولة متنقلاً من ملك إلى ملك ومن سلطان إلى سلطان بين تونس والجزائر والأندلس ، وخبر المكائد و المؤامرات ، ولعله شارك في بعضها ، مما أوقعه في المصائب واضطره إلى الابتعاد عن السلطة بضع سنين تفرغ فيها للدرس والبحث ، وكانت المرحلة الهامة في هذا التفرغ تلك التي قضاها في تلمسان ، وقد أقام في قلعة ابن سلامة في ضيافة أولاد عريف ، حيث تفرغ لتأليف كتاب العبر ، وكان في الخامسة والأربعين من العمر ، ويروي كتّاب سيرته أنه أنجز كتابة المقدمة في خمسة شهور ، وقد اضطره البحث عن المراجع إلى أن يعود إلى تونس وفيها تفرغ للتدريس ، وأنجز مؤلفه ، وأهداه إلى سلطانها أبي العباس أحمد ، وقد أراد السلطان أن يعيده إلى العمل السياسي لكنه تذرع بالرغبة في السفر إلى الحج ، وغادر إلى الاسكندرية ، فبدأت مرحلة مصر في حياته ، وهي من أغنى المراحل في سيرته ، فقد استقبله أهلها بما اشتهروا به من حب للعلم والأدب ، وصار ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† أستاذاً في الأزهر الشريف ، وقد تولى منصب قاضي قضاة المالكية في مصر وهو التونسي مما أثار حفيظة منافسيه ، ثم جاءت رحلته الشهيرة إلى دمشق سنة 803 هجرية حين خرج السلطان الناصر فرج للقاء جيوش تيمورلنك الزاحفة على الشام ، وقد عاد السلطان دون أن يتم اللقاء مع تيمور ، تاركاً دمشق لمصيرها ، لكن ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† بقي في الشام وأقام صلة مع تيمورلنك ، وأصبح من خاصة جلسائه، وهذه الصلة جعلته موضع انتقاد لدى الباحثين . وقد عاد ابن ط®ظ„ط¯ظˆظ† إلى مصر ليتفرغ لتنقيح كتابه ( العبر ) ومقدمته ، وقد توفي بمصر عن ستة وسبعين عاماً ، ودفن في العباسية بالقاهرة ، وقد أهمل الباحثون كتاب العبر ، وذاعت شهرة المقدمة التي حملت ط§ظ„ط¹ظ„ظ… الجديد، وهو ما نرجو أن نتأمله في حديث قادم .